زعير وســلا من القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين

ROMMANI PRESS   بقلم: الاستاذ: محمد السعديين   
إذا حظيت  بوادي الشاوية ودكالة  والرحامنة وسوس وتافيلالت وابني احسن وغيرها باهتمام الدارسين، فإن قبائل زعير لم تنل قسطا وافرا من البحث التاريخي. وإذا كان ابن سودة كان له قصب السبق في تأليف كتاب عن زعير(1)، فإنه أتى ،في الغالب ،بمعلومات مفككة لا تشفي غليل الباحث في تلمس التطور التاريخي الذي عاشته قبائلها. وقد خص الأستاذ علال الخديمي زعير بدراسة قيمة أبرز فيها مقاومتها للاحتلال الأجنبي وعلاقتها بالمخزن خلال القرن التاسع عشر(2). أما المؤلفون الأجانب الذين تحدثوا عن زعير  فقد اكتفى السواد الأكبر منهم بنعت سكانها بالشغب والنهب والتمرد(3)،علما بأنهم قاوموا المستعمر مقاومة شرسة.
    ويلاحظ المتتبع لعلاقة زعير بالحواضر المغربية أنه تم  التركيز على صلاتها بالرباط، ولم يتم التطرق إلى روابطها بمدينة سلا إلا لماما، رغم أننا نصادف في المعطى الجغرافي عناصر تؤيد تلك الروابط. واللافت للانتباه هو أن مؤلفات علماء سلا التي أمكن الاطلاع عليها كنوازل عبد السلام حركات(4) ونوازل أحمد الجريري(5) وإتحافي ابن علي الدكالي(6)ومؤلف سلا ورباط الفتح  لجعفر الناصري(7) خالية أو تكاد من العلاقة التي جمعت مسقط رأسهم بقبائل زعير. لقد أشارت هذه المؤلفات إلى علاقة سلا بقبائل بني احسن واحصين والسهول وعامر وزمور. وذات الملاحظة تسري على كوستي الذي تناول، في سياق حديثه عن بيوتات سلا، مسألة انتقال سكان بعض البوادي المغربية إلى سلا في عهد العلويين ، مكتفيا بالإشارة إلى سكان بوادي الشاوية ودكالة وزمور(8). وحذا حذوه براون في كتابه" سكان سلا"(9) والأستاذ عز المغرب معنينو في أطروحته عن مدينة سلا(10). بيد أن الشذرات المتناثرة في بعض الوثائق والمصادر تبين على نحو واضح أن جسور الاتصال بين زعير وسلا كانت قوية. فما هي مجالات هذا الاتصال؟ وهل نستطيع القول إن قبائل زعير أسهمت إلى حد ما في تعزيز العلاقات الإنسانية بينها وبين سكان سلا؟
(1)محمد بن عمر ابن سودة، قبيلة زعير قديما وحديثا، جزءان، الدار البيضاء، دار الكتاب 1977 (ج1) ودار النشر المغربية، 1986 (ج2)
(2) علال الخديمي، - مقاومة قبائل زعير للتدخل الفرنسي ما بين سنوات 1906 و 1912، ضمن ندوة المقاومة المغربية ضد الاستعمار، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، 2008 ص.ص 95-109
                          - زعير، معلمة المغرب، سلا، مطابع سلا، 2001، 14 : 4667 – 4672
(3) نذكر منها :
- De Foucault ( ch), Reconnaissance au Maroc, 1883-1884, Paris 1888
- Aubin ( Eugen), Le Maroc d’Aujourd’hui, Paris 1904
- Brown (K), Les gens de Salé, Casablanca, Ediff, 2001.
(4) عبد السلام حركات، النوازل، مخ الخزانة الصبيحية بسلا، أرقام 93 و 482 و 483
(5) أحمد الجريري، النوازل الفقهية، جزءان، تح. مصطفى النجار، الدار البيضاء النجاح الجديدة، 1994 ( ج 1) و منشورات المجلس العلمي بسلا، 2005 (ج2).
(6) محمد بن علي الدكالي ، -  الإتحاف الوجيز بأخبار العدوتين، تح. مصطفى بوشعراء، الرباط، المعارف الجديدة، 1996
                                    - إتحاف أشراف الملا، ببعض أخبار  الرباط وسلا، مخ، خ.ع، رقم 11 د.
(7) جعفر الناصري، سلا ورباط الفتح، أسطولهما وقرصنتهما الجهادية، تح. أحمد بن جعفر الناصري، مطبعة المعراف الجديدة، الرباط 2006 ( 6 أجزاء)
(8) كوستي (جان)، بيوتات سلا، تح. نجاة المريني، سلا، مطابع سلا، 1989 ص.ص 32-33
(9)  Brown (K), Les gens de Salé, op.cit, p.p. 56-55

 (10) عز المغرب معنينو، مدينة سلا ما بين نهاية القرصنة ونهاية الاحتلال دوكتوراه مرقونة، كلية الآداب الرباط، 2004ص.ص 68-7

  1-جدورالاتصال بين زعير وسلا
         تكون زعير(برفع الأول وفتح الثاني) (11) مجموعة قبلية كبيرة مجاورة للرباط وسلا ولقبائل الشاوية وزمور وزيان وتادلا. تنقسم زعير إلى قسمين كبيرين هما : الكفيان (بكاف معقودة مرفوعة وسكون الفاء)(12) والمزارعة ويضمان معا ثلاث عشرة قبيلة(13).  ومن المعلوم أن جزءا من هذا المجال الجغرافي شكل موطن البرغواطيين الذين اتخذوا من شالة مركزا لإمارتهم إلى جانب أزمور.وغير خفي، أن مدينة سلا تأسست لتكون دار جهاد ضد أولئك المارقين(14).

 فإذا انتهى المقام  بقبائل زعيرفي مكانها اليوم على الأقل خلال  القرن 12/18م (15) ، فإن جسور التواصل بين أهالي هذين المجالين قد شيدت منذ مستهل القرن الخامس الهجري/11م، تاريخ تأسيس مدينة سلا الحديثة التي شكلت جبهة حساسة لمواجهة البرغواطيين. وحينما طلع المرابطون من الصحراء للجهاد والقضاء على النحلة البرغواطية، فإن أرض زعير مثلت مسرحا للمعارك بين الطرفين.وقد أسفرت عن مصرع عبد الله بن ياسين سنة451/1059م (16).وقد دفن  بكريفلة قرب أرض أولاد مرزوك (بكاف معقودة) بزعير(17). ولا ننسى أن نهاية البرغواطيين تمت بسلا حيث تعقبتهم كتائب
المرابطين بزعامة يوسف بن تاشفين عند نهر أبي رقراق فحاصروهم فهلكوا غرقا أو تحت السيوف،كما ذكر الحسن الوزان(18).
  تسمح قراءة هذه المعطيات بالوصول إلى نتيجة مفادها أن السلاويين قد أدلوا بدلوهم في تطهير المنطقة المجاورة لحاضرتهم من البرغواطيين، وأنهم احتكوا بالمجال المذكور قبل حلول الزعريين به. ولما استقرت قبائل زعير بصفة نهائية وجدت نفسها مهيأة لربط علاقات إنسانية مع السلاويين بحكم الجوار وحمل لواء الجهاد ضد المغيرين على المنطقة.

تنطق زعير بسكون الأول وفتح الثاني وهو الشائع عند العموم. عن الاشتقاق اللغوي لزعير انظر :
ابن أبي محلي، الإصليت، مخ.خ.ح، رقم 100 ص.ص.10-17
علال الخديمي، زعير، معلمة، م.س، 14 : 4668
Cicard, L’organisation des ZAER, in Revue du Monde Musulman, Juin 1910, p 256
سميت كذلك لأنها جاءت وراء القسم الثاني المزارعة لأن الكاف المعقودة هي حرف القاف بالفصحى. انظر : ابن سودة قبيلة زعير م.س، 1 : 36                                  
نفسه، ص.ص، 36-42
- ج.الناصري، سلا ورباط الفتح، م.س،1 : 20-21
محمد حجي، ظاهرة الجهاد في تأسيس سلا والرباط، ضمن الندوة العلمية حول الرباط وسلا، مطبوعات وزارة الأوقاف، 1994، 1 : 39-41
تنتمي زعير إلى الأصول المعقلية. عرفت عدة تحركات أدت بها في آخر المطاف إلى مواطنها الحالية. عن هجرة تلك القبائل من شبه الجزيرة العربية إلى المغرب انظر :
أحمد الناصري، الاستقصا ، الدار البيضاء، دار الكتاب 1956، 2 : 161-177
مصطفى أبو ضيف أحمد، أثر القبائل العربية في الحياة المغربية خلال عصري الموحدين وبني مرين، مطبعة دار النشر المغربية الدار البيضاء، 1982، ص.ص 222-230
علال الخديمي زعير، معلمة.م.س، 14 : 4669
Loubignac (V), Textes arabes des ZAER, 1952 , p.p.10-11
(16)أ. الناصري، الاستقصا، م.س، 2 : 18-19
(17) أولاد مرزوك، أحد بطون أولاد كثير المنتمين لأولاد خليفة الذين يدخلون في عداد قسم المزارعة. انظر : ابن سودة ، قبيلة زعير، م.س، 1 : 42-43
(18) الحسن الوزان، وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، الرباط، 1980، ص.155

    - زعير وسلا خلال القرنين 12-13/18-19م

            لما حل القرن الثاني عشر الهجري/18م -تاريخ استقرار زعير بمواطنها الحالية- كان قد مر على تأسيس سلا زهاء سبعة قرون، قطعت خلالها عدة أشواط لمعت فيها سياسيا وعسكريا واقتصاديا وفكريا فضلا عن خوضها للجهاد البحري الذي سارت بذكره الركبان.
ويستفاد من كناش في شؤون بحارة العدوتين أنه بتاريخ 15شوال 1215/فاتح مارس 1801 رافق الرايس الحاج الطاهر عواد(19) من المجاهدين البحريين والطبجية المصطفى الزعري إلى جانب أحمد التطواني والحاج الطاهر بوشعرة والمفضل السفياني(20).
إذا سطر هذا المصدر استمرار نشاط الجهاد البحري السلاوي  والحضور الوازن لمجاهدي الضفة اليمنى لنهر أبي رقراق فيه، فإنه أمدنا باسم أحد رجالات زعير الذي جمع من الخبرة في الميدان المذكور ما جعل الرايس عواد يضمه إلى طاقمه .ويتراءى من ذلك أن أسرة مصطفى الزعري نزحت إلى سلا على الأقل أواخرالقرن 12/18م. ملاحظة تبرز جاذبية سلا لبعض الأسر الزعرية منذ هذا الوقت المبكر وانصهارها في المجتمع السلاوي. ومعلوم أن زعير في عهد المولى سليمان كانت تابعة لعامل بني  احسن إدريس بن الغازي(21)، مما يدل على تبادل المصالح بين الزعريين والحسناويين  والسلاويين.لكن سرعان ما تطورت علاقة القبيلة مع هذا السلطان حيث عين عليها أحد أبنائها وهو بوعزة بن القسطالي(22). وقد اقتنى آل القسطالي دورا لهم ولذويهم بسلا. ومازالت حومة القساطلة مشهورة -إلى اليوم- بجوار المسجد الأعظم بهذه الحاضرة. فالإشعاع الديني والروحي لهذه الأخيرة كان حاضرا بقوة في أذهان هؤلاء،   فضلا عن تطلع بعضهم إلى تكوين أبنائهم على يد شيوخ العلم السلاويين.وإذا أمعنا النظر في وثيقة توزيع الصلة التي أنعم بها الحسن الأول على الطبجية السلاويين بتاريخ 16قعدة1292/14دجنبر1875 ، نجد منهم سيدي محمد لحسن الزعري وكان نصيبه هو 24 أوقية، وحصل على نفس المبلغ محمد بن محمد الزعري. أما محمد بن الحاج بناصر الزعري والحسين بن السابع الزعري فقد نال كل واحد منهما 26 أوقية(23). تعزز هذه الوثيقة مسألة استقطاب سلا لكثير من الأسر الزعرية التي أصبحت لها مكانة متميزة في المجتمع السلاوي بفعل إسهامها في الجهاد البحري الذي حظي رجالاته بالتقدير والإعجاب. وتتضح الصورة أكثر في رسالة بعثها الحسن الأول إلى الحاج محمد بن سعيد السلاوي(24) يأمره بأن يوجه لحضرته الحاج بناصر الزعري الذي له معرفة بعلم رياسة البحر(25).  ويمكن أن نسترسل في ذكر الزعريين الذين عرفوا بعلو كعبهم في ميدان الجهاد البحري، الأمر الذي جعلهم يتبوؤون مكانة لائقة في المجتمع السلاوي.
(19) الحاج الطاهر بن الحاج الهاشمي عواد كان مثل أبيه من رياس البحر المحنكين. مارس نشاطه في عهدي سيدي محمد بن عبد الله والمولى سليمان. وقد أمره هذا الأخير بإنشاء سفينة حضر الضعيف لحظة تعويمها سنة 1216/1801.توفي بعد سنة 1229/1813-1814   انظر :
     -  الضعيف، تاريخ، تح. محمد البوزيدي، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1988، 2 : 638.
     - ابن زيدان إتحاف أعلام الناس، الرباط، المطبعة الوطنية، 1933، 3 : 264.
(20) مجهول، كناشة في أمور البحر، مخ، خ.ع، رقم 1409 د، ص . 76
(21) ادريس بن الغازي ابن العامري من ولاة بني احسن كان المولى سليمان متزوجا بأخته التي طلقها بعد ذلك. حظي بثقة هذا السلطان. توفي إدريس بن الغازي مطعونا بالسلاح سنة 1217/1799.
انظر : مصطفى بوشعراء، قبيلة بني احسن، الدار البيضاء النجاح الجديدة، 1996، ص.1989
(22) علال الخديمي، قبائل زعير والمخزن خلال القرن التاسع عشر، ضمن البادية المغربية عبر التاريخ، الدار البيضاء، النجاح الجديدة، 1999، ص.95
(23) مصطفى بوشعراء، التعريف ببني سعيد السلاويين وبنبذة عن وثائقهم، الرباط المعراف الجديدة، 1991، 2 : 152-160.
(24) الحاج محمد بن سعيد السلاوي تولى مناصب سامية منذ عهد المولى عبد الرحمان إلى نهاية الحسن الأول. كان أمينا بمراكش وآسفي وعين سنة 1278/1862 عاملا على مدينة سلا. توفي 8 ربيع الثاني1310 /.30أكتوبر1892.
انظر : جعفر الناصري، بنو سعيد السلاويون، ضمن التعريف ببني سعيد، م.س، 1 : 15-29
(25) م.بوشعراء، التعريف ببني سعيد، م.س، 2 : 174
  وإذا حاولنا تتبع سكنى الزعريين بسلا ، فإن وثيقة توزيع الصلة من طرف الحسن الأول على يد الحاج المكي معنينو والمقدم الحاج الطاهر النجارالمؤرخة في5 ذي الحجة 1290/24يناير 1874تمكننا من أخذ فكرة عن الحومات التي استقر بها هؤلاء، وهي: بوقاع  وباب سبتة ودرب الحمام ودرب سيدي زيتون وأبي طويل(26). نلاحظ من خلال هذا التوزيع أن السواد الأكبر من أهالي زعير سكنوا في المحور الرابط بين باب سبتة وبوقاع                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                               مرورا بأبي طويل وهو المحور الذي تقطنه أسر سلاوية غير عريقة بخلاف حومتي الطالعة وباب احساين اللتين تستوطنهما أسر منها:  معنينو وزنيبر وفنيش وابن خضراء والزواوي وغيرها من الأسر الموغلة في العراقة.  أما إذا ألقينا نظرة على الأحياء الهامشية، نرى أن ساكنة دوار الجديد في حدود الثلاثينيات من القرن الماضي موزعة كالتالي: السلاويون 14 %والزعريون 10%ودكالة  9%والسوسيون4% والزموريون3% وآخرون 30%(27). يتضح من هذا التوزيع أن الزعريين يأتون في مقدمة سكان البوادي الأخرى المستقرين في التجمع السكني المذكور.ومن ثمة، شكلت قبائل زعير أهم روافد المهاجرين إلى سلا. فإذا أخذنا –مثلا- الحسين بن محمد الزعري السلاوي  الذي ينتمي إلى فخذة أولاد ميمون من بطن الكصيصات (بكاف معقودة ) فإن جد والده هو الذي انتقل من زعير إلى سلا(28) .وإذا علمنا أن الحسين الزعري هذا  قد ولد سنة  1872أدركنا أن هجرة جد والده تمت في حدود مستهل القرن التاسع عشر. وتجدر الإشارة إلى أن الحسين الزعري كان من أنجب الطلبة السلاويين،الأمر الذي أهله ليكون ضمن البعثة الطلابية التي أرسلها الحسن الأول إلى إيطاليا عام1306/1888 قصد التكوين العسكري وتعلم اللغات(29). وبعد عودته تولى بعض المهام المخزنية. وفي حدود سنة 1926 أسندت له القيادة بزعير وتولى أمر قبائل السلامنة وأولاد زيد وأولاد دحو والحلاليف مدة إحدى عشرة سنة. وتنتمي هذه القبائل كلها إلى الكفيان –آنفة الذكر(30). ومادمنا بصدد ذكر مهام السلاويين بأرض زعير،نشير إلى أن محمد بن الطيب ابن إدريس بن المرتجي بن السلطان المولى إسماعيل عين بتاريخ 2رجب1353/11أكتوبر 1934نائبا عن قاضي أحواز الرباط بما فيها بعض قبائل زعير وأخر عن النيابة في 5رجب 1354/3أكتوبر1935لأسباب سياسية لم ترق الحكام الفرنسيون(31).
 ثم إننا نجد ،من جهة أخرى، أن السلا ويين من أصول بوادي زعير ظلت فئة منهم تسمي أنجالها -في الغالب- بالأسماء المتداولة فيها كبوعزة وبنعاشر والحبشي والميلودي وغيرها من الأسماء التي تبين على نحو واضح مدى تشبتهم  بأسماء الصلحاء المدفونين بأرض زعير أو المناطق القريبة منها.

  2- المجال الاقتصادي     

من البديهي أن المعطى الجغرافي خلق دائرة من التواصل بين زعير وسلا  ، الشيء الذي كان له  انعكاسات إيجابية على الميدان الاقتصادي. ويتبادر إلى الذهن في أول الأمر السؤال التالي: هل كان بين زعير وسلا تعاون وتكامل أم تنافس ؟

 
  
(26) ن.م.س، 2 : 137-144
(27) Naciri (M), Salé, étude de la géographie urbaine, in Revue de Géographie du Maroc, N° 3-4, 1963 p : 49
(28) أحمد معنينو، مذكرات طالب مغربي أرسل في بعثة مغربية إلى إيطاليا منذ ثمانين سنة، دعوة الحق نونبر 1968، ص.ص 143-146
(29) نفسه، 144
(30) ابن سودة، زعير ، م.س، 2 : 187
(31) بوعبيد التركي، محمد بن الطيب العلوي، معلمة، م.س، 25: 201

إذا ألقينا نظرة على المجال الجغرافي المحيط بسلا نرى أن هذه الحاضرة تلامس الهضاب الغنية للمعمورة والسهول وزعير. وتعتبر هذه الأخيرة من أغنى المناطق لإنتاج الحبوب (32). ومن المعلوم أن سلا أصبحت في عهد المرابطين وبالأخص في عهد الموحدين أول مدينة عسكرية في المغرب ، إذ كانت تتجمع فيها الجيوش للتوجه للدفاع عن الأندلس المسلمة في اتجاه الشمال أو لتوطيد كلمة الدولة في الأقاليم النائية في المغرب الأوسط والأدنى. وقد تجاوزت تلك التجمعات الضخمة بالتأكيد الموارد المحلية. فكان من الضروري أن تجلب لها الأقوات من البوادي المجاورة (33)، لاسيما من الغرب وزعير تفاديا للنقص في أي وقت . وقد ذكر الحسن الوزان الذي اعتاد التوجه إلى مراكش ،مرورا ببادية زعير أن هذه الأخيرة غنية بالقمح، مشيرا إلى أن سوق النخيلة القريب من مدفن عبد الله بن ياسين ، كانت أهالي تامسنا تشد إليه الرحال. وقد بلغت وفرة القمح فيه أيام البرغواطيين درجة جعلت الناس يستبدلون أحيانا حملا كبيرا منه بنعلين (34).  تساعد هذه المعطيات  على معرفة الأهمية الاقتصادية الوازنة لبادية زعير بالنسبة لمدينة سلا، علما بأن غلبة التربة الرملية بضواحي سلا لم تكن تسمح  بزراعة إلا القليل من القمح. وبذلك مثلت هذه البادية إلى جانب بوادي بني احسن ومكناس مجالا زراعيا زود سلا بما تحتاجه من الحبوب. وبالطبع ، فإنه خلال السنوات العجاف تكون الحاجة أشد إلى هذه البوادي .وتجدر الإشارة إلى أن الوثائق الأجنبية لا تناقض هذه المعلومات بل تعززها(35) .
لقد تحدثت المصادر عن ازدهار كثير من حرف سلا منذ العصر الوسيط،مشيرة إلى أن ذلك  مرتبط أشد الارتباط بما تزوده الغابة للحرفيين من مواد أولية. فإلى جانب غابة المعمورة، دأب السلاويون على التوجه إلى غابات زعير لجلب القصب والخشب والدباغ وغيرها(36).وكانت سلا تحتاج لدخول مادة الدباغ بانتظام حتى لا تتضرر حرفة الدباغة والدباغين. ونستشف أهمية تزويد سلا بالدباغ من زعير من خلال رسالة كتبها السلطان محمد بن عبد الرحمان إلى عامل سلا الحاج محمد بن سعيد السلاوي بتاريخ 8 ربيع الثاني 1279/ 3أكتوبر1862  ينهاه عن مصادرة الدباغ الذي يرد من زعير:"واعلم أن الدباغ الذي أمرناك بحجزه هو الذي يؤتى به من المعمورة من بلاد بني احسن لا من بلاد زعير"(37).تنسجم هذه الرسالة مع شهادة ابن علي الدكالي السلاوي الذي أبرز في كتاباته المكانة الاقتصادية  المتميزة لصناعة الجلود بمسقط رأسه ومدى إسهامها في تنشيط التجارة بسلا(38) لدرجة أن دار الدباغ كان ينعتها بلديوه بدار الذهب لما تدره من مداخيل هامة. فلا غرابة إذن، إذا اعتبر الزواج بالدباغ مفخرة للمرأة السلاوية)(38)'. 

(32) عبد الله العوينة، المجموعة الحضرية الرباط-سلا، الإطار  البيئي العام والمشاكل البيئية الحالية ضمن الندوة العلمية حول الرباط وسلا، م.س، 1 : 31
(33) محمد زنيبر، سلا ومكناس في الماضي، ضمن المغرب في العصر الوسيط، البيضاء مطبعة  النجاح الجديدة، 1999، ص 320
(34) الحسن الوزان وصف إفريقيا، م.س، 1 : 157.
(35) أنظر مثلا :
- Archives Diplomatiques, Nantes, carton N° 73 date du doc . 12-11-17-16
- Archives Nationales, Paris, Reconnaissances maritimes des villes de Salé et de Rabat. B.B4, 11.6
(36) - Brunot(Louis), La mer dans les traditions et les industries indigènes de Rabat-Salé, Paris, 1921, p : 97.
(37) أورد الرسالة علال الخديمي في عرف الرفود وحماية الأمن بنواحي الرباط وسلا خالل القرن التاسع عشر، ضمن التاريخ وأدب النوازل، مطبعة فضالة، المحمدية 1995، ص 250.
(38) انظر الإتحاف الوجيز، م.س، ص.ص 46-47
(38)' رواية شفوية.

     ويمكن تلمس العلاقة الاقتصادية بين زعير وسلا من خلال رسالة موجهة إلى الطالبي بتاريخ 28 محرم 1315/29يونيو 1897تقول إن محمد الدكالي ومحمد الشاوي السلاويين خرجا منذ ثمانية أشهر إلى بلاد زعير لبيع السكر والعطرية فانقطع خبرهما إلى أن وجدا مذبوحين ببلاد النويفات من الأعراب(39) ، الشيء الذي يؤشر على أن الصلات التجارية

بين زعير وسلا لم تكن تخلو من مغامرات وتحملات تؤدي  أحيانا إلى صدام يتفاحش في ظروف القحط والمجاعة. لكن التلاحم البشري بين هؤلاء وأولئك فرض نفسه بقوة، إذ استفاد تجار زعير من بيع  منتجاتهم بسلا خاصة بسوق الخميس الذي شكل فرصة سانحة لتنمية أرباحهم،علما بأن بادية  زعير تمتعت على غرار البوادي المغربية الأخرى بوزن اقتصادي أكثر قوة مما كان عليه الحال داخل المدينة لاسيما قبل سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي(40). ومن المفيد أن نذكر  أن آمنة الزعرية كانت في بداية الحماية تبيع الخبز بسلا أكثر من سعره وهو ناقص في الوزن ب150غراما هي ومشاركها الهاشمي الفرني .لذلك طالب المحتسب بمعاقبتها(41).  إن ما يهمنا من إدراج هذه الواقعة ليس هو الوقوف على المخالفات التي عرفتها أسواق المدينة بقدر ما نرمي إلى تأكيد التلاحم البشري بين أهل سلا وسكان القبائل التي نحن بصددها.
وغير خاف أن سلا كانت تحتضن منذ قرون طائفة من اليهود.وقد تميز هؤلاء كما هو معلوم بنشاطهم التجاري وتنقلهم بين المدن والبوادي ، مما جعل منهم عنصرا أساسيا في ربط العلاقات  البشرية بين سلا وزعير، تلك العلاقات المبنية على تبادل المصالح .وكانوا على غرار التجار السلاويين"السواقة" يقصدون أسواق البوادي ويركزون نشاطهم على مثل هذه التنقلات وغالبا ما فاقت بكثير نسبة المسلمين(42). ولا يعزب عن البال أن الباعة المتجولين يحتلون مكانة خاصة في سياق تنقلات اليهود في البوادي قبل سنة 1912  .ذلك أن ما يناهز 50% من يهود المدن كانوا يكسبون قوتهم وقوت ذويهم بهذه الكيفية .ويعتبر "العطار" وجها من الوجوه المألوفة على طرقات دواوير مغرب ما قبل الاستعمار (43). وبالطبع، فإن زعير شكلت واحدة من هذه المناطق.
وينبغي ألا نغض الطرف عن عنصر هام في ربط العلاقات الاقتصادية بين سلا وقبائل زعير، ونقصد به نهر أبي رقراق الذي كان مقصد صيادي   هذه  الأخيرة، علما بأنه غني بالشابل وأنواع السمك الأخرى. ومن ثمة، فقد شكل دخلا إضافيا لأولئك الصيادين. لقد كانت ثروات هذا النهر مغرية لأهل هذه القبائل وجذابة . وقد أشارت  المصادر  الوسيطية إلى كثرة الأسماك به لدرجة أنه لا يكاد يباع ولا يشترى .ونسوق في هذا الصدد شهادة ابن الخطيب حيث قال:" وكفى بالشابل رزقا طريا ،وسمكا بالتفضيل حريا ،يبرز عدد قطر الديم ويباع ببخس القيم، ويعم حتى المجاشر النائية  والخيم"(44). وقد أكد عبد السلام حركات في نوازله غنى أبي رقراق بالشابل والنون(45).

(39) م.بوشعراء، قبيلة بني احسن، م.س، ص 254
(40) محمد حواش، البادية المغربية وعلاقتها بالمدينة خلال سنوات الثلاثينات، ضمن البادية المغربية، م.س، ص 175.
(41) أحمد الصبيحي كناش الحسبة، مخ.خ الصبيحية بسلا، رقم 234، 3 : 68
(42) محمد كنبيب، تاريخ يهود البوادي والمدن المغربية الصغرى، ضمن : مدينة أبي الجعد، الذاكرة والمستقبل، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1995، ص 48
(43) نفسه.
(44) ابن الخطيب، معيار  الاختيار، في ذكر المعاهد والديار، تح م شبانة، مطبعة فضالة 1977، ص 155.
(45) عبد السلام حركات، تقدير فرض النفقة، مخ، خ الصبيحية بسلا، رقم 93 سادس مجموع، ص 11.


ونسج على منواله ابن علي الدكالي  في رجزه قائلاعن سلا:

وبحرها الملح كثير الحوت                       ونهرها ذو الشابل المنعوت(46)

إلا أن مسألة تحبيس الشابل المصطاد من نهر أبي رقراق لتزويد مدينة سلا بالماء الجاري قد أثرت بدون شك على نفسية صيادي العدوتين والقبائل المجاورة لنهر أبي رقراق ،لاسيما السهول وزعير لكونهم يسترزقون من حرفة صيد  الشابل منذ قديم(47). وبالتالي فإن إصدار المولى إسماعيل لظهائر في هذا المجال(48) قد ألحق بالتأكيد الضرر بهؤلاء. ويبدو أن بعض الصيادين السلاويين والزعريين ظلوا يصطادون الشابل وغيره من السمك من نفس النهر بطرق غير مشروعة.
وحينما نتأمل طبيعة العلاقات الاقتصادية بين زعير وسلا نرى أنه من المصالح التي كان يتم الترافد(49) حولها عمل الكواشة، أي صانعي الفحم الخشبي الذين يضطرون إلى العمل في الغابات المجاورة لسلا أو البعيدة نسبيا عنها مثل غابة زعير،وكذلك عمل المزيبرية الذين يقطعون الأخشاب الصالحة لصنع الألواح المستخدمة في صنع المراكب والسفن(50).
لقد أشارت المصادر إلى الرواج الذي تعرفه  أسواق زعير التي تردد عليها بعض التجار السلاويين،  إلا أنها لم تمدنا بمعلومات عن الأسواق الأسبوعية لمدينة سلا. واكتفت بذكر السوق أو أسواق سلا دون أن تحدد مكانها وأيام انعقادها. فورثة الحاج المكي معنين- مثلا- باعوا خلال سنة 1202/87-1788 عجلتين في السوق بستين أوقية(51). وقد أشار محمد الناصري إلى انعقاد سوق الخميس في ساحة السوق الكبير الحالية(52). وأوضح براون أن السلاويين ترددوا عليه خلال القرن19، شأنهم في ذلك شأن سكان بوادي سلا(53). وتفيدنا إحدى الوثائق بانعقاد سوق الماشية بباب الفران (باب المريسة الحالية) سنة 1930(54).وكل المؤشرات تدل على أن كسابة زعير كانوا يؤمونه. وفي ما يخص الأسواق الموسمية، فقد أشار الضعيف إلى انعقاد موسم  أبي موسى الدكالي بسلا(55). وقد شكل فرصة لسكان البوادي إذ كانوا"يأتون في قوافل وينصبون خيامهم على طول الساحل"(56) خلال ثلاثة أيام من شهر غشت من كل سنة، الأمر الذي أسهم في تنشيط المبادلات التجارية. ويتراءى من كثرة فنادق سلا لاسيما في المحور الرابط بين باب فاس وباب سبتة ما يفسر تدفق التجار الوافدين على هذه المدينة من البوادي القريبة كبني احسن وزمور وزعير.

 
 

(46) ابن علي الدكالي، إتحاف أشراف الملا، م.س، ص 6.
(47) عبد العزيز الخمليشي، منفعة صيد الشابل وغيره من الأسماك بوادي أبي رقراق 1701-1993، ضمن هسبريس تمودا، 1995، ص 44.
(48) تاريخ هذه الظهائر : - فاتح جمادى الأولى 1113/4 أكتوبر 1701
                                  - فاتح صفر 1124/10 مارس 1712
انظرهما في حوالة أحباس سلا، مخ،خ. الحسنية، الرباط، رقم 593، ص.ص8-10.
(49) يراد بالترافد التعاون على حفظ الأمن ودوام الصلح بين طرفين أو قبيلتين انظر : علال الخديمي، عرف الرفود، م.س، ص.ص 243-244.
(50) نفسه، 250.
(51) تركة الحاج المكي معنينو، وثيقة خاصة.
(52) Naciri (M), Salé, op.cit, p.75
(53) Brown (K), Les gens de Salé, Op.cit, p 69.
(54) الوثيقة عبارة عن صورة أوردها براون في ن.م.س، ص 59.
(55) الضعيف، تاريخ، م.س، 2 : 625و 725.
(56) Salamon (G), Notes sur Salé, in Archives Marocaines, T3, p.p.321-322.


3- المجال الروحي

لاشك أن من أكبر الحوافز على الاتصال بين سلا وزعير ما عرف به  سكانهما من الإقبال الكبير على زيارة أضرحة الصلحاء .لقد تردد سكان قبائل زعير على ضريح أحمد ابن عاشر الجزيري السلاوي للتبرك به وسموا أنجالهم باسمه حتى لا يكاد يخلو بيت من بيوت الزعريين من اسم بنعاشر(57)، شأنهم في ذلك شأن السلاويين.ويبدو أن الزعريين كانوا يغتنمون فرصة زيارة الضريح المذكور للتوجه إلى أضرحة أشهر صلحاء سلا،أمثال عبد الله بن حسون وأبي موسى الدكالي وابن المجراد (58)وغيرهم. ولا ننسى أن هذه الزيارات شكلت فرصة مواتية ليتعرف أهل زعير على السلاويين والتبادل معهم بأشياء مختلفة منها ما يتعلق بالروحيات والفكريات ومنه ما له صبغة مادية وفنية كالصناعات وغيرها.
هذا التلاحم الروحي بين زعير وسلا يمكن تلمسه كذلك  من خلال زيارة السلاويين لأضرحة الصلحاء الواقعة بزعير. فهذا أحمد بن خضراء السلاوي(59) توجه صحبة ثمانية طلبة من العدوتين من بينهم الضعيف الرباطي بتاريخ يوم الأحد 12ربيع الثاني1229/13 أبريل 1814 لزيارة ضريح عبد الله بن ياسن،دفين كريفلة بأرض زعير.وقد جرت مساجلة بين هؤلاء الطلبة.ولم يكن الأديب السلاوي ابن خضراء يخفي منزعه الروحاني وهو يتعلق بأذيال مكرمات صاحب الضريح حيث قال:

رحماك رحماك  يابدرا سما شرفا            لمن تلا ضارعا طه وياسينا
فأنت من معشر أضحوا لزائرهم             بكل ما أملوا فورا مواسينا(60)

وإذا دأب السلاويون والزعريون على زيارة الأضرحة المذكورة ،فإنهم كانوا مستعدين-على الأقل-نفسيا لشد الرحال إلى مناطق نائية لنيل بركات صالحيها. ونسوق في هذا السياق ضريح أبي يعزى القريب من أرض زعير والذي ولى كثير من السلاويين وجههم شطره لنيل البركات.لقد خرج أحمد بن عاشر الحافي رفقة أهله لزيارته يوم الاثنين17 شعبان 1131/5يوليوز1719(61). ولا تخفى أهمية هذا الولي في نفوس المغاربة سواء من عامة الناس أو خاصتهم.فالزعريون يسمون أنجالهم باسم أبي يعزى، تيمنا به. وتدخل أسرة البوعزاوي-نسبة إلى هذا الأخير- في عداد الأسر السلاوية الشهيرة. وبالطبع،

إرسال تعليق

0 تعليقات