ROMMANI PRESSاللغة مشتقة من لغة يلغو إذا تكلم، وهي على العموم عبارة عن أوضاع وأصوات ذات مقاطع ومخارج تنبئ عن المعاني النفسية، والأغراض الاجتماعية، وسائر المطامح البشرية في أي عصر من عصور التاريخ قديما كان أو حديثا، وذلك ما تستوفيه المعاجم والمكاتب العربية والعجمية، وتهييئه اللهجات العامية والأمثال العرفية، والاصطلاحات العلمية، فهي وسيلة التخاطب بين الأفراد والجماعات، وأداة التفاهم بين الشعوب والقبائل ـ وهي من مقومات الأمم الذاتية، ومميزاتها الطبيعية ـ وهي من لطف الله بعباده، وعظيم نعمته على خلقه، تقوم الحياة والحضارة على أساس مفهومها، ويكتب التاريخ بحروفها، وعلى حسب ظروفها.
والإنسان الواحد لا يستقل بجميع حاجاته، بل لابد له من التعاون مع أبناء جنسه، ولا تعاون الا بالتعارف ولا تعارف الا باللغة، أي الألفاظ والعبارات، وما الإنسان لولا اللسان الا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة، وكل دعوة من الدعوات، أو نظرية من النظريات، فإنما يتقرر سلوكها ومذهبها بواسطة اللغات، ولكل قوم طبيعة لسانهم، وميزان لغتهم في الأداء والبيان، كما قال الله جل وعلا في وظيفة الرسل: ((وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم )) ولولا اللغات ما تسنى تعارف ولا تعاون ولا كان بين الناس تواصل ولا تفاهم ولا تمت صلة بين الماضي والحاضر، وما من لغة إلا ولها تطور معروف في التاريخ، ضرورة أنها كائن من الكائنات الحية.
واللغة العربية على الخصوص كانت لها سلطة في الحياة العامة تبعا لسلطة الإسلام التي انتشرت في أنحاء العالم، وهي لسانه وسلاحه الوحيد، وتطورت تطورا محسوسا في العصر الإسلامي وفي العصور الأخرى الباقية لتطور الأفكار وكثرة المحسوسات، ولتلاقي الإنسيات والذهنيات، وتكيفت بقوة مع الصلات والأحداث حتى أصبحت لسان السياسة والفلسفة، وأداة العلوم والمصطلحات، وصدمت أمام التيارات الأجنبية، والحضارات المتقدمة صمود البطل المحق وذلك ما يشهد بطموحها وقدرتها على الحياة والبقاء.
ولقد كانت وما زالت تتجدد كلما تجددت الأجهزة والأساليب، فالتطور طبيعة والتجدد شريعة، الا أنه ينبغي أن يكون ذلك لصالح الإنسان، والصعود به الى مقام الإحسان، ومن تم كانت اللغة على الإطلاق هي مدار السيادة وقرار السعادة، وإطار التقدم والنهوض، وهي التي تربط بين القلوب كما تربط بين الشعوب، وهي التي تطبع المجتمع بطابع الوحدة والألفة كما تربيه على العزة والقوة ـ وغير خفي أن الإسلام قد ظهر ـ في عصر وعي الإنسانية وتقدم رسالتها، متجاوزة بذلك العهد البدائي، أي بساطة الإدراك والحياة ـ وفي عهد النعرة اليهودية، والحزبية النصرانية التي كانت قد استفحل الخلاف بينها، والتي ذهبت إلى نكران ما هو بعيد عن تصورها، وكل ما يضعف أثرتها، ويزاحم سلطتها، غير ناظرين إلى ما وراء ذلك من تقدم البشرية وتبدل أوضاعها ـ وأن من شأن ذلك أن تتبدل فيه الأحكام والمصالح وينسخ بعضها بعضا كما هو معهود حتى في القوانين البشرية التي يلغي بعضها بعضا عند الضرورة والاقتصاد، فكان الإسلام بذلك ـ جامعا للمصالح المادية والأدبية على اختلاف الأطر والمستويات، مما يتقاضاه ذلك العصر وما بعده من العصور ـ ومانعا من المفاسد التي تعوق سير الإنسانية وتضر بأخلاقها وأرزاقها ـ وناسخا لما قبله من الشرائع على سنة الله في التقدم بعباده، وإصلاح أرضه، وبذلك كانت لغته لغة التمدين والتجديد، ولغة الإصلاح والتسديد، ((والله يعلم وأنتم لا تعلمون))
ثم ان الأصل في العناية بتعلم اللغات وتعليمها ـ قوله تعالى: ((وعلم آدم الأسماء كلها)) فقد علم الله آدم عليه السلام الأسماء واللغات ـ حتى أنه كان يتكلم بسبعمائة لغة على ما ذكروا وأثروا ـ وحتى أنبأ الملائكة بما غاب عنهم من الأسماء والمسميات، وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الله سائر اللغات كما علم آدم عليه السلام ـ وأنه كان يخاطب كل قوم بلسانهم ويحاورهم بلغاتهم حسبما هو مثبوت في دواوين الأخبار والروايات، وكتب السير والمعجزات.
وقد ذكر الباحثون أن وفدا من رجراجة وهي قبيلة من قبائل المغرب ذهبت إلى مكة أوائل البعثة المحمدية، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم باللغة البربرية فأجابهم صلى الله عليه وسلم بها فأسلموا، وعادوا وهم يحملون الإسلام إلى بلدهم ـ ومن ثم عدهم بعض المؤرخين من طلائع الصحابة.
ومن العناية بتعلم اللغات ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم السريانية والعبرانية فتعلمها رضي الله عنه حتى استطاع أن يكتب إلى اليهود، وأن يترجم إذا كتبوا ـ وجاء في بعض الروايات أنه تعلم الفارسية، والرومية، والحبشية، والفبطية بالمدينة من أصحاب هذه الألسن، ـ وفي صحيح البخاري: وقال خارجة بن زيد ابن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود، وكل هذا من معنى الحديث المتداول على الألسنة: من تعلم لسان قوم آمن من مكرهم، وان كان لا يعرف بهذا اللفظ، وفيه أيضا باب من تكلم بالفارسية والرطانة، ونشار بذلك كما قاله شراحه إلى جواز التكلم بغير اللغة العربية ولاسيما إذا دعت الحاجة والضرورة إلى تعلمها والتكلم بها، سئل ابن عباس رضي الله عنهما هل تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية؟ فقال نعم كلم سلمان الفارسي بها ـ ولقد كان ابن عباس يجلس معه ترجمانه بالفارسية في مجلسه ويحيطه بالرعاية والاحترام ـ ومن غريب ما يروى في هذا المقام أنه كان لعبد الله ابن الزبير مائة غلام يتكلم لغة خاصة، وأنه كان يكلم كل واحد منهم بلغته، ولا غرابة في عدد الغلمان فقد كان لأبيه الزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدي اليه الخراج ـ وفي الاثقان للسيوطي أنه يوجد في القرآن خمسون لغة منها ما هو من لغات العرب ومنها ما هو من لغات العجم كالفارسية، والرومية، والقبطية، والحبشية، والبربرية، والسريانية، والعبرانية، ـ وفي ذلك ما يدل على نوع من الطموح اللغوي والتنوع الثقافي.
ومن هنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف جميع اللغات تعليما من الله تعالى لأنه مبعوث إلى سائر الأجناس البشرية، فالكل قومه وأهله ـ وأنه كان يكلم كل جهة بلغتها، ويبين لها بلسانها، فلو أنه قدر له صلى الله عليه وسلم أن طال عمره لكم العجم بلغتهم، ودعاهم بلسانهم، ولكن (( كان أمر الله قدرا مقدورا))
ويبدو من هذا العرض الموجز أن تعلم اللغات وتعليمه محفوظ في الإسلام، وأن من شأن ذلك، أن يرفع من قيمة المرأة، ويقوي نشاطه، ويوسع آفاقه، ويسدد حاجته، ويكون له مزيد من الإطلاع، وعلى الأخص هذا العصر الذي أصبحت فيه اللغات مفتاحا للتعارف والتفاهم وتأمين الحقوق والمصالح ـ وطريقا إلى طلب العلوم الكونية التي تعتبر في مفهوم العصر شيئا ضروريا وتدخل في حياته دخولا أوليا ـ وأن كراهة التكلم باللغة الأجنبية مقيدة بمن لم تدعه الضرورة إليها، أو كان ذلك يجني على لغته القومية، ويقضي على نشاطها بالكلية.
وتعلم اللغات لا يتنافى مع ما ينبغي أن تكون عليه لغة القوم من اعزاز مكانها ورفع مقامها حتى يكون لها التصرف المطلق في ظاهر الحياة وباطنها، وحتى تتصدر كل إدارة من إدارات قومها ـ وتتكلم في كل مصلحة من مصالح وطنها ـ ومن أجل هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم خطبوا في محفل من المحافل بغير اللغة العربية وان كان المجلس يجمع أهل العجمية، لأنها هي اللغة الرسمية التي نزل بها كتاب رب العالمين.
هذا ولا يلزم من قوله تعالى (( وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم )) أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بلسان قريش فقط بل العرب كلهم قومه فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كلم ملوك اليمن واقيال حضرموت بلغتهم، ولذا قال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف. انها سبع لغات لسبع قبائل مهمة من العرب متفرقة في القرآن. ولا يرد على ذلك أيضا أنه صلى الله عليه وسلم بلغه الى قبائل العرب وهم يبلغونه عن طريق الترجمة الى غير العرب بألسنتهم، فترجمة القرآن الى سائر اللغات ترجمة تفسيرية لا ترجمة حرفية هي طريق الدعوة إلى الله تعالى، وطريق نشر نظام الإسلام ومحاسنه، وذلك ما أجمع عليه المسلمون لأن طبيعة الدعوة وعموم الرسالة لا تتحقق الا بهذا المجال ـ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قومه أولا حتى تخلص الجزيرة العربية لدين الإسلام فتكون هي المدرسة الأولى التي تحمل اشعاع الدعوة الإسلامية الى سائر البقاع والأقاليم وتتكفل ببيانها وتفسيرها، وقد قدر الله أن يبلغ الرسول قومه بلسانهم، وأن تتم رسالته الى البشر عن طريقهم، وذلك ما يتفق وطبيعة العمر البشري المحدود ـ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحث على تبليغ الرسالة بقوله: ليبلغ الشاهد منكم الغائب. وبقوله: بلغوا عني ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع. ولقد كان ما قدره العليم الخبير فقد انتهى أجله صلى الله عليه وسلم عند الانتهاء إلى آخر حدود الجزيرة العربية، وعند بعث جيش أسامة إلى الخارج وتحقق تبليغ الرسالة الى سائر الأصقاع وثبت ذلك عن طريق الترجمة فقد ترجم كتاب الله الى عدة لغات، وبلغت دعوته كل جهة من الجهات، والأمة العربية هي المسؤولة عن تبليغ الدعوة الى الناس بما أمكن من الوسائل.
وان دل هذا على شيء فإنما يدل على اهتمام الإسلام بسائر اللغات لأن الإنسان لا يفهم الا عن طريق لغته، وليس من الطبيعي أن يكلف بلغة غيره، الا أن الواجب يقضي أن تكون ترجمة القرآن الكريم تفسيرية، وأن يكون المترجم عالما باللغة المنقول اليها والمنقول منها، وخبيرا بأسرارها وخصائصها، وأن يعتمد في ترجمته على الأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وقوانين العلوم العربية حتى لا تكون الترجمة تابعة للأهواء والآراء والظنون ـ وكم من ترجمة أفسدت معاني القرآن وأخرجتها عن طبيعة اللغة وبيان السنة وذلك ما يجب التنبه له والتنبيه عليه ومتابعة من أقدم على ذلك من دون أن تتوفر فيه الأهلية والصلاحية.
وانما لم ينزل القرآن بسائر اللغات لأن ذلك مظنة الاختلاف ومدعاة إلى التنازع لأن كل امة قد تدعى من المعاني في لسانها ما لا يعرف في لسان غيرها، وقد يقضي ذلك إلى التحريف والتصحيف بسبب ما يثار من الدعاوي الباطلة التي تصدر من المتعصبين والمبتعدين وفي كل أمة كثير من المنحرفين، ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمومنين)) ونزوله بلسان الأقربين إليه صلى الله عليه وسلم من حفظ الله لكتابه كما قال ((انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ))
وللإمام الشاطبي في الموافقات كلمة في ترجمة القرآن أحببت أن أختم بها هذه الجملة فقد أوضحت الصراط، وحققت المناط، قال رحمه الله:
للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران، أحدهما من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة وهي الدلالات الأصلية ـ والثاني من جهة كونها الفاظا وعبارات مقيدة دالة على معاني مقيدة وهي الدلالة التبعية، فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة واليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، فانه اذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الأخبار عن زيد بالقيام، تأتى له ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الاخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم ـ ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والاخبار عنها وهذا لا أشكال فيه.
وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الأخبار، فان كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الاخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به، ونفس الأخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك، وذلك أنك تقول في ابتداء الأخبار قام زيد أن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه بل بالخبر فان كانت العناية بالمخبر عنه قلت زيد قام، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة، أن زيدا قام، وفي جواب المنكر لقيامه، والله أن زيدا قام، وفي أخبار من يتوقع قيامه أو الأخبار بقيامه قد قام زيد أو زيد قد قام. وفي التنكيت على من ينكر انما قام زيد. ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره أعني المخبر عنه، وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار وما يعطيه مقتضى الحال إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وجميع ذلك دائر حول الاخبار بالقيام عن زيد.
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي ولكنها من متمماته ومكملاته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام اذا لم يكن فيه منكر وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالثة على وجه ثالث، وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول الا اذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت ((وما كان ربك نسيا)).
واذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال فضلا من أن يترجم القرآن وينقل الى لسان غير عربي الا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينها كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثله ونحوه، فاذا ثبت ذلك في اللسان المنقول اليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر، واثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدا ـ وقد نفى ابن قتيبة امكان الترجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثاني، فإما على الوجه الأول فهو ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام فصار هذا الإتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي انتهى وهو كلام كاف وشاف، وعليه فالترجمة هي لتفسير القرآن لا للقرآن نفسه والله تعالى أعلى واعلم.
والإنسان الواحد لا يستقل بجميع حاجاته، بل لابد له من التعاون مع أبناء جنسه، ولا تعاون الا بالتعارف ولا تعارف الا باللغة، أي الألفاظ والعبارات، وما الإنسان لولا اللسان الا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة، وكل دعوة من الدعوات، أو نظرية من النظريات، فإنما يتقرر سلوكها ومذهبها بواسطة اللغات، ولكل قوم طبيعة لسانهم، وميزان لغتهم في الأداء والبيان، كما قال الله جل وعلا في وظيفة الرسل: ((وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم )) ولولا اللغات ما تسنى تعارف ولا تعاون ولا كان بين الناس تواصل ولا تفاهم ولا تمت صلة بين الماضي والحاضر، وما من لغة إلا ولها تطور معروف في التاريخ، ضرورة أنها كائن من الكائنات الحية.
واللغة العربية على الخصوص كانت لها سلطة في الحياة العامة تبعا لسلطة الإسلام التي انتشرت في أنحاء العالم، وهي لسانه وسلاحه الوحيد، وتطورت تطورا محسوسا في العصر الإسلامي وفي العصور الأخرى الباقية لتطور الأفكار وكثرة المحسوسات، ولتلاقي الإنسيات والذهنيات، وتكيفت بقوة مع الصلات والأحداث حتى أصبحت لسان السياسة والفلسفة، وأداة العلوم والمصطلحات، وصدمت أمام التيارات الأجنبية، والحضارات المتقدمة صمود البطل المحق وذلك ما يشهد بطموحها وقدرتها على الحياة والبقاء.
ولقد كانت وما زالت تتجدد كلما تجددت الأجهزة والأساليب، فالتطور طبيعة والتجدد شريعة، الا أنه ينبغي أن يكون ذلك لصالح الإنسان، والصعود به الى مقام الإحسان، ومن تم كانت اللغة على الإطلاق هي مدار السيادة وقرار السعادة، وإطار التقدم والنهوض، وهي التي تربط بين القلوب كما تربط بين الشعوب، وهي التي تطبع المجتمع بطابع الوحدة والألفة كما تربيه على العزة والقوة ـ وغير خفي أن الإسلام قد ظهر ـ في عصر وعي الإنسانية وتقدم رسالتها، متجاوزة بذلك العهد البدائي، أي بساطة الإدراك والحياة ـ وفي عهد النعرة اليهودية، والحزبية النصرانية التي كانت قد استفحل الخلاف بينها، والتي ذهبت إلى نكران ما هو بعيد عن تصورها، وكل ما يضعف أثرتها، ويزاحم سلطتها، غير ناظرين إلى ما وراء ذلك من تقدم البشرية وتبدل أوضاعها ـ وأن من شأن ذلك أن تتبدل فيه الأحكام والمصالح وينسخ بعضها بعضا كما هو معهود حتى في القوانين البشرية التي يلغي بعضها بعضا عند الضرورة والاقتصاد، فكان الإسلام بذلك ـ جامعا للمصالح المادية والأدبية على اختلاف الأطر والمستويات، مما يتقاضاه ذلك العصر وما بعده من العصور ـ ومانعا من المفاسد التي تعوق سير الإنسانية وتضر بأخلاقها وأرزاقها ـ وناسخا لما قبله من الشرائع على سنة الله في التقدم بعباده، وإصلاح أرضه، وبذلك كانت لغته لغة التمدين والتجديد، ولغة الإصلاح والتسديد، ((والله يعلم وأنتم لا تعلمون))
ثم ان الأصل في العناية بتعلم اللغات وتعليمها ـ قوله تعالى: ((وعلم آدم الأسماء كلها)) فقد علم الله آدم عليه السلام الأسماء واللغات ـ حتى أنه كان يتكلم بسبعمائة لغة على ما ذكروا وأثروا ـ وحتى أنبأ الملائكة بما غاب عنهم من الأسماء والمسميات، وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الله سائر اللغات كما علم آدم عليه السلام ـ وأنه كان يخاطب كل قوم بلسانهم ويحاورهم بلغاتهم حسبما هو مثبوت في دواوين الأخبار والروايات، وكتب السير والمعجزات.
وقد ذكر الباحثون أن وفدا من رجراجة وهي قبيلة من قبائل المغرب ذهبت إلى مكة أوائل البعثة المحمدية، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم باللغة البربرية فأجابهم صلى الله عليه وسلم بها فأسلموا، وعادوا وهم يحملون الإسلام إلى بلدهم ـ ومن ثم عدهم بعض المؤرخين من طلائع الصحابة.
ومن العناية بتعلم اللغات ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم السريانية والعبرانية فتعلمها رضي الله عنه حتى استطاع أن يكتب إلى اليهود، وأن يترجم إذا كتبوا ـ وجاء في بعض الروايات أنه تعلم الفارسية، والرومية، والحبشية، والفبطية بالمدينة من أصحاب هذه الألسن، ـ وفي صحيح البخاري: وقال خارجة بن زيد ابن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود، وكل هذا من معنى الحديث المتداول على الألسنة: من تعلم لسان قوم آمن من مكرهم، وان كان لا يعرف بهذا اللفظ، وفيه أيضا باب من تكلم بالفارسية والرطانة، ونشار بذلك كما قاله شراحه إلى جواز التكلم بغير اللغة العربية ولاسيما إذا دعت الحاجة والضرورة إلى تعلمها والتكلم بها، سئل ابن عباس رضي الله عنهما هل تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية؟ فقال نعم كلم سلمان الفارسي بها ـ ولقد كان ابن عباس يجلس معه ترجمانه بالفارسية في مجلسه ويحيطه بالرعاية والاحترام ـ ومن غريب ما يروى في هذا المقام أنه كان لعبد الله ابن الزبير مائة غلام يتكلم لغة خاصة، وأنه كان يكلم كل واحد منهم بلغته، ولا غرابة في عدد الغلمان فقد كان لأبيه الزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدي اليه الخراج ـ وفي الاثقان للسيوطي أنه يوجد في القرآن خمسون لغة منها ما هو من لغات العرب ومنها ما هو من لغات العجم كالفارسية، والرومية، والقبطية، والحبشية، والبربرية، والسريانية، والعبرانية، ـ وفي ذلك ما يدل على نوع من الطموح اللغوي والتنوع الثقافي.
ومن هنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف جميع اللغات تعليما من الله تعالى لأنه مبعوث إلى سائر الأجناس البشرية، فالكل قومه وأهله ـ وأنه كان يكلم كل جهة بلغتها، ويبين لها بلسانها، فلو أنه قدر له صلى الله عليه وسلم أن طال عمره لكم العجم بلغتهم، ودعاهم بلسانهم، ولكن (( كان أمر الله قدرا مقدورا))
ويبدو من هذا العرض الموجز أن تعلم اللغات وتعليمه محفوظ في الإسلام، وأن من شأن ذلك، أن يرفع من قيمة المرأة، ويقوي نشاطه، ويوسع آفاقه، ويسدد حاجته، ويكون له مزيد من الإطلاع، وعلى الأخص هذا العصر الذي أصبحت فيه اللغات مفتاحا للتعارف والتفاهم وتأمين الحقوق والمصالح ـ وطريقا إلى طلب العلوم الكونية التي تعتبر في مفهوم العصر شيئا ضروريا وتدخل في حياته دخولا أوليا ـ وأن كراهة التكلم باللغة الأجنبية مقيدة بمن لم تدعه الضرورة إليها، أو كان ذلك يجني على لغته القومية، ويقضي على نشاطها بالكلية.
وتعلم اللغات لا يتنافى مع ما ينبغي أن تكون عليه لغة القوم من اعزاز مكانها ورفع مقامها حتى يكون لها التصرف المطلق في ظاهر الحياة وباطنها، وحتى تتصدر كل إدارة من إدارات قومها ـ وتتكلم في كل مصلحة من مصالح وطنها ـ ومن أجل هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم خطبوا في محفل من المحافل بغير اللغة العربية وان كان المجلس يجمع أهل العجمية، لأنها هي اللغة الرسمية التي نزل بها كتاب رب العالمين.
هذا ولا يلزم من قوله تعالى (( وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم )) أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بلسان قريش فقط بل العرب كلهم قومه فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كلم ملوك اليمن واقيال حضرموت بلغتهم، ولذا قال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف. انها سبع لغات لسبع قبائل مهمة من العرب متفرقة في القرآن. ولا يرد على ذلك أيضا أنه صلى الله عليه وسلم بلغه الى قبائل العرب وهم يبلغونه عن طريق الترجمة الى غير العرب بألسنتهم، فترجمة القرآن الى سائر اللغات ترجمة تفسيرية لا ترجمة حرفية هي طريق الدعوة إلى الله تعالى، وطريق نشر نظام الإسلام ومحاسنه، وذلك ما أجمع عليه المسلمون لأن طبيعة الدعوة وعموم الرسالة لا تتحقق الا بهذا المجال ـ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قومه أولا حتى تخلص الجزيرة العربية لدين الإسلام فتكون هي المدرسة الأولى التي تحمل اشعاع الدعوة الإسلامية الى سائر البقاع والأقاليم وتتكفل ببيانها وتفسيرها، وقد قدر الله أن يبلغ الرسول قومه بلسانهم، وأن تتم رسالته الى البشر عن طريقهم، وذلك ما يتفق وطبيعة العمر البشري المحدود ـ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحث على تبليغ الرسالة بقوله: ليبلغ الشاهد منكم الغائب. وبقوله: بلغوا عني ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع. ولقد كان ما قدره العليم الخبير فقد انتهى أجله صلى الله عليه وسلم عند الانتهاء إلى آخر حدود الجزيرة العربية، وعند بعث جيش أسامة إلى الخارج وتحقق تبليغ الرسالة الى سائر الأصقاع وثبت ذلك عن طريق الترجمة فقد ترجم كتاب الله الى عدة لغات، وبلغت دعوته كل جهة من الجهات، والأمة العربية هي المسؤولة عن تبليغ الدعوة الى الناس بما أمكن من الوسائل.
وان دل هذا على شيء فإنما يدل على اهتمام الإسلام بسائر اللغات لأن الإنسان لا يفهم الا عن طريق لغته، وليس من الطبيعي أن يكلف بلغة غيره، الا أن الواجب يقضي أن تكون ترجمة القرآن الكريم تفسيرية، وأن يكون المترجم عالما باللغة المنقول اليها والمنقول منها، وخبيرا بأسرارها وخصائصها، وأن يعتمد في ترجمته على الأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وقوانين العلوم العربية حتى لا تكون الترجمة تابعة للأهواء والآراء والظنون ـ وكم من ترجمة أفسدت معاني القرآن وأخرجتها عن طبيعة اللغة وبيان السنة وذلك ما يجب التنبه له والتنبيه عليه ومتابعة من أقدم على ذلك من دون أن تتوفر فيه الأهلية والصلاحية.
وانما لم ينزل القرآن بسائر اللغات لأن ذلك مظنة الاختلاف ومدعاة إلى التنازع لأن كل امة قد تدعى من المعاني في لسانها ما لا يعرف في لسان غيرها، وقد يقضي ذلك إلى التحريف والتصحيف بسبب ما يثار من الدعاوي الباطلة التي تصدر من المتعصبين والمبتعدين وفي كل أمة كثير من المنحرفين، ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمومنين)) ونزوله بلسان الأقربين إليه صلى الله عليه وسلم من حفظ الله لكتابه كما قال ((انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ))
وللإمام الشاطبي في الموافقات كلمة في ترجمة القرآن أحببت أن أختم بها هذه الجملة فقد أوضحت الصراط، وحققت المناط، قال رحمه الله:
للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران، أحدهما من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة وهي الدلالات الأصلية ـ والثاني من جهة كونها الفاظا وعبارات مقيدة دالة على معاني مقيدة وهي الدلالة التبعية، فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة واليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى، فانه اذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الأخبار عن زيد بالقيام، تأتى له ما أراد من غير كلفة، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الاخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم ـ ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والاخبار عنها وهذا لا أشكال فيه.
وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الأخبار، فان كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الاخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به، ونفس الأخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك، وذلك أنك تقول في ابتداء الأخبار قام زيد أن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه بل بالخبر فان كانت العناية بالمخبر عنه قلت زيد قام، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة، أن زيدا قام، وفي جواب المنكر لقيامه، والله أن زيدا قام، وفي أخبار من يتوقع قيامه أو الأخبار بقيامه قد قام زيد أو زيد قد قام. وفي التنكيت على من ينكر انما قام زيد. ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره أعني المخبر عنه، وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار وما يعطيه مقتضى الحال إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وجميع ذلك دائر حول الاخبار بالقيام عن زيد.
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي ولكنها من متمماته ومكملاته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام اذا لم يكن فيه منكر وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالثة على وجه ثالث، وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول الا اذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت ((وما كان ربك نسيا)).
واذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال فضلا من أن يترجم القرآن وينقل الى لسان غير عربي الا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينها كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثله ونحوه، فاذا ثبت ذلك في اللسان المنقول اليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر، واثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدا ـ وقد نفى ابن قتيبة امكان الترجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثاني، فإما على الوجه الأول فهو ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام فصار هذا الإتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي انتهى وهو كلام كاف وشاف، وعليه فالترجمة هي لتفسير القرآن لا للقرآن نفسه والله تعالى أعلى واعلم.
0 تعليقات
ROMMANI PRESS